جنيف - نفذت منظمة سام للحقوق والحريات ورابطة أمهات المختطفين، عضو تحالف ميثاق العدالة لليمن، ندوة نقاشية موسعة بعنوان "مقاربات العدالة الانتقالية في اليمن: الأعراف القبلية والسياق القانوني"، ضمن إطار مشروع SPARK المدعوم من معهد "دي تي"، وبمشاركة نخبة من المتخصصين والمهتمين.
افتتحت الإعلامية شروق القاسمي الندوة مؤكدة على أهمية بناء الوعي المجتمعي تجاه العدالة الانتقالية، مشيرة إلى أن هذه الفعالية هي جزء من سلسلة حوارات وطنية تهدف إلى تعزيز المشاركة المجتمعية وإشراك مختلف الأصوات القانونية والاجتماعية في صياغة رؤى العدالة الانتقالية.
أوضح توفيق الحميدي، رئيس منظمة سام، أن الندوة تأتي ضمن سلسلة من الويبينارات التي تنظمها سام ورابطة أمهات المختطفين بالتعاون مع معهد "دي تي". وأكد أن الحديث عن العدالة الانتقالية لم يعد ترفاً فكرياً، بل أصبح ضرورة وطنية لمنع تكرار مآسي الماضي وبناء مستقبل آمن. وأشار إلى أهمية تناول قضايا مثل النوع الاجتماعي والمصالحة من منظور الضحايا، وإشراك المجتمع بكل فئاته في بناء رؤى العدالة، في ظل الواقع اليمني الصعب.
في مداخلته، أكد القاضي محمد حمود الهتار، الخبير في العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان، أن العدالة الانتقالية تمثل ضرورة تاريخية، وأنها لا تقتصر على أدوات قضائية مثل المحاكمات، بل تشمل أيضاً كشف الحقيقة، جبر الضرر، وإصلاح المؤسسات. أشار إلى أن هذا المسار بدأ بجدية في 2011 وتبلور في مؤتمر الحوار الوطني، لكن التداعيات اللاحقة، خاصة بعد انقلاب 2014، أوقفت تقدمه في ظل غياب قانون ناظم وتشريعات موحدة.
تحدث الهتار عن الانقسام القضائي الذي أفرز منظومتين متوازيتين في صنعاء وعدن دون اعتراف متبادل، ما أضعف الثقة العامة بالقضاء. ولفت إلى تعدي جماعة الحوثي على استقلال القضاء من خلال "المنظومة العدلية" وتعديلات غير دستورية تمنح رئيس المجلس السياسي التابع لهم صلاحيات واسعة، وهو ما قوض استقلال القضاء وعمق أزمة المساءلة القانونية.
دور المجتمع المدني وأهمية بناء عقد اجتماعي جديد
شدد القاضي الهتار على أن هذا الواقع المعقد زاد من هشاشة الثقة لدى المواطنين، وأفرز تحديات أمام معالجة الانتهاكات وبناء آليات مستقلة للمساءلة. واعتبر أن العدالة الانتقالية يجب أن تتجاوز محاسبة الماضي لتكون مشروعاً وطنياً يعيد تعريف الشرعية السياسية على أسس المواطنة، ويضمن مشاركة الضحايا والمجتمع المدني بشكل فعال.
ولفت إلى ضرورة اعتماد رؤية وطنية شاملة تنطلق من توافق سياسي واسع، وإصلاح قضائي حقيقي، ومشاركة المجتمع في تصميم مسارات العدالة، حتى لا تكون مدفوعة بإملاءات الأطراف المسيطرة أو تتحول إلى "عدالة المنتصر". وأكد أهمية استلهام التجارب الدولية التي أثبتت أن العدالة ليست مجرد إجراءات قضائية، بل تحتاج إلى أدوات مجتمعية ورمزية لبناء الثقة والمصالحة.
قدّم الدكتور عادل دشيلة مداخلة مطولة تناول فيها دور الأعراف القبلية في دعم العدالة الانتقالية. وقال إن المجتمع اليمني مجتمع زراعي قبلي له ثقافته الخاصة، ويجب أن تُبنى أي رؤية للعدالة على خصوصيته. وبيّن أن التحدي الأكبر هو في نوايا الأطراف: الجاني يسعى للإفلات من العقاب، والضحية يميل للانتقام، مما يعقد مسار العدالة.
ودعا إلى توثيق هذه الأعراف وصياغتها في إطار قانوني يمكن أن يكون جزءاً من مشروع العدالة الانتقالية، خصوصاً في ظل ضعف الثقة بالقضاء الرسمي. لكنه حذّر من عيوب النظام القبلي، خاصة في التعامل مع قضايا النساء والحساسيات الاجتماعية، مؤكداً أن هذه الجوانب تتطلب استراتيجية وطنية تأخذ بعين الاعتبار قيم المجتمع والخصوصيات الدينية والثقافية.
استعرض الدكتور دشيلة تجارب دولية مثل جنوب إفريقيا، تشيلي، ورواندا، لافتاً إلى أن هذه التجارب نجحت نسبياً في معالجة ملفات العدالة رغم أنها لم تكن مكتملة. وأشار إلى أن اليمن يحتاج لآليات جبر الضرر، سواء عبر التعويضات المادية أو توفير الخدمات الصحية والتعليمية للضحايا.
لفت دشيلة إلى أن العرف القبلي ليس تقليداً جامداً، بل هو نظام مرن يعلي صوت الضحية لا المنتصر. وأوضح أن العرف القبلي في اليمن يحمي الضحية، حتى لو انتصرت قبيلة على أخرى، إذ يُلزم المنتصر بتعويض الضحية. وأشار إلى مثال من العرف الحضرمي: "حد المال الإرجاع ولا براءة في أرش ولا نقاء في عرض"، والذي يؤكد ضرورة رد الحقوق كاملة والتعويض المادي عن الأضرار، وعدم التساهل في قضايا العرض والشرف.
كما أشار إلى أمثلة واقعية عن دور القبائل في حماية سياسيين من أحزاب الإصلاح والمؤتمر في مناطق الحوثيين، وهو ما يعكس دور القبيلة كحارس للسلم الأهلي في غياب الدولة. وأكد أن العرف القبلي نجح خلال الحرب في معالجة الكثير من القضايا، بما في ذلك فتح الطرقات وتبادل الأسرى.
أشار دشيلة إلى حساسية قضايا مثل العنف الجنسي وقضايا العرض في المجتمع اليمني، قائلاً: "هناك ضحايا لا يمكنهم التعبير عن ما تعرضوا له لأنهم يخشون وصمة العار، رغم أنهم أصحاب الحق". ودعا إلى توثيق الأعراف القبلية غير الموثقة ووضعها ضمن إطار قانوني لدعم جبر الضرر وبناء العدالة.
مواقف من أسئلة الجمهور: رؤية أعمق وتأكيد على دور الضحايا
في ردوده على أسئلة الحضور، شدد القاضي الهتار على أهمية إشراك المجتمع المدني في توثيق الانتهاكات، مؤكداً أن هذا يوثق صوت الضحايا ويمنع اختزال العدالة إلى مجرد مسار "انتقامي". أما الدكتور دشيله، فقد أوضح في مداخلاته الإضافية أن "ثقافة عفى الله عما سلف" يجب أن تُمحى لأنها تشجع على تكرار الانتهاكات، مشيراً إلى قاعدة عرفية حضرمية تقول: "حد المال الإرجاع ولا براءة في أرش ولا نقاء في عرض"، وهي قاعدة تشدد على أن الحقوق لا تُمحى بدون تعويض عادل وردّ اعتبار حقيقي.
كما أكد الدكتور دشيله ضرورة بناء أرشيف وطني شامل يوثق كل ما حدث من انتهاكات، ليكون ركيزة لأي عملية مصالحة حقيقية في المستقبل، مبيناً أن التغيير لا يقتصر على تغيير الأطراف، بل يحتاج إلى إرادة سياسية صادقة، واستعداد مجتمعي يرفض منطق الغلبة وينحاز لقيم الحقيقة والمصالحة والإنصاف.
وأشار الدكتور دشيله إلى أن القوى السياسية تكرّر فشلها منذ 1970 وحتى اليوم لأنها لا تفاوض باسم الشعب، بل باسم مصالحها، محذراً من أن الاستمرار بهذا النهج سيؤدي إلى فرض تسوية خارجية قد تعيد رسم خارطة اليمن على أسس مذهبية أو مناطقية.
في التفاعل مع أسئلة الجمهور، شدد القاضي الهتار على أن المجتمع المدني يجب أن يوثق انتهاكات جميع الأطراف دون تمييز، كي لا تتحول العدالة إلى أداة بيد المنتصر. كما دعا الدكتور دشيلة إلى بناء أرشيف وطني شامل يوثق الانتهاكات كركيزة للمصالحة المستقبلية، محذراً من أن القوى السياسية تكرر أخطاءها منذ السبعينيات لأنها تفاوض لأجل مصالحها لا لمصلحة المجتمع.
خلاصة وتوصيات: العدالة شرط للسلام
أجمع المشاركون على أن تحقيق سلام دائم في اليمن لن يكون ممكناً دون عدالة انتقالية شاملة تعطي الضحايا حقهم في معرفة الحقيقة، وتضمن تعويضهم المادي والمعنوي، وتعيد بناء المؤسسات على أسس دستورية ومجتمعية عادلة. ودعوا إلى أن تكون العدالة الانتقالية رؤية وطنية تتجاوز الصراعات الحزبية، وتضع اليمنيين جميعاً على طريق المصالحة والتنمية.
واختتمت الندوة بتأكيد ضرورة استمرار هذه الحوارات التفاعلية، وتوسيعها لتشمل أصوات الضحايا، ومبادرات المجتمع المدني، ومختلف الأطراف الفاعلة، بما يسهم في بلورة مشروع يمني للعدالة الانتقالية يعالج الماضي ويصون مستقبل البلاد.