دراسة تحليلية تستكشف آفاق التكييف المحلي لمسار العدالة بعد النزاع
التجربة التشيلية للعدالة الانتقالية وآفاق الاستفادة منها في اليمن
  • 15/10/2025
  •  https://samrl.org/l?a5613 
    منظمة سام |

    أصدرت منظمة سام، بالشراكة مع رابطة أمهات المختطفين وبدعم من معهد دي تي، ضمن مشروع سبارك، دراسةً تحليلية بعنوان "التجربة التشيلية للعدالة الانتقالية وآفاق الاستفادة منها في اليمن عبر دور المجتمع المدني" للباحث عادل دشيلة، تتناول فيها تجربة تشيلي بعد الدكتاتورية وكيف يمكن توظيف دروسها لبناء مسار عدالة انتقالية في اليمن يضع الضحايا في مركزه ويهيئ لتسوية سلمية قائمة على الحقيقة والإنصاف لا على الصفقات السياسية.

    ملامح الأزمة اليمنية وغياب العدالة البنيوية

    تُبرز الدراسة أن اليمن عاشت عقودًا من الصراعات والانقسامات السياسية والمناطقية التي خلّفت وراءها تراكمًا من المظالم والانتهاكات غير المعالجة. وتشير إلى أن جذور الأزمة تمتد إلى ما قبل الوحدة، حين بدأت النزاعات المسلحة تتكرر دون أن تتبعها عمليات مساءلة أو إنصاف حقيقية. وتوضح أن حرب 1994 ثم حروب صعدة بين 2004 و2010 مثّلت مراحل مفصلية رسّخت منطق القوة والغلبة بدل العدالة، وصولًا إلى الانهيار المؤسسي عام 2014 حين تفجّر الصراع الشامل وتعددت أطرافه المحلية والإقليمية.

    وتؤكد الدراسة أن الانتهاكات في هذه الفترات تنوّعت بين القتل خارج القانون، والإخفاء القسري، والتعذيب، والعنف الجنسي، والتجنيد الإجباري للأطفال، والمصادرة القسرية للممتلكات. كما شددت على أن المؤسسات القضائية والأمنية فشلت في أداء وظائفها، إما بسبب التسييس أو الانقسام أو غياب الكفاءة.

    وأوردت الدراسة أن المحاولات السياسية السابقة، مثل قانون العدالة الانتقالية ومسودة الحوار الوطني، بقيت حبيسة الأوراق ولم تتجسد في واقع مؤسسي، إذ لم تتوافر الإرادة السياسية لتنفيذها. وبيّنت أن القوى المتنازعة غالبًا ما تعاطت مع العدالة بوصفها تهديدًا لمصالحها، ما أدى إلى تعطيل كل جهد يرمي إلى إحقاق الحقوق أو إنصاف الضحايا.

    وتخلص الدراسة إلى أن العدالة في اليمن ليست مسألة تقنية، بل قضية بنيوية تتعلق بطبيعة النظام السياسي وعلاقته بالمجتمع، مؤكدة أن أي مسار للعدالة الانتقالية لا بد أن يبدأ بإصلاح جذري لمؤسسات القضاء وإعادة الاعتبار للذاكرة الوطنية باعتبارها أساس الثقة العامة.

    تجربة تشيلي: من جرح الماضي إلى ترميم الذاكرة

    توضح الدراسة أن تجربة تشيلي بعد انتهاء الحكم العسكري لأوغستو بينوشيه (1973–1990) تمثل أنموذجًا ناجحًا لمسار عدالةٍ متدرجٍ وواقعي. فقد بدأت الخطوة الأولى بتشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة (ريتيغ) التي قامت بتوثيق الانتهاكات وتقديم أول اعتراف رسمي من الدولة بضحايا القمع. وأشارت الدراسة إلى أن هذه اللجنة كانت نقطة التحول نحو بناء مصالحة قائمة على الحقيقة لا على التناسي، إذ سمحت بإرساء خطاب وطني جديد يعترف بالضحايا ويؤسس لشرعية أخلاقية للدولة الديمقراطية الوليدة.

    كما أبرزت الدراسة أن المجتمع المدني لعب الدور المحوري في هذه التجربة، إذ قادت الكنيسة الكاثوليكية ومنظمات مثل لجنة السلام ونيابة التضامن جهودًا مكثفة لجمع الشهادات وتوثيق حالات التعذيب والإخفاء. وقد تحولت هذه الوثائق إلى أرشيف قانوني ضخم أسهم في دعم المحاكمات لاحقًا. وأكدت الدراسة أن هذا الجهد الأهلي كان بمثابة الضمير الحي الذي فرض على الدولة التعامل مع الحقيقة باعتبارها شرطًا للمستقبل لا عبئًا من الماضي.

    وأشارت أيضًا إلى أن جبر الضرر كان أحد أعمدة النجاح، حيث أُنشئ برنامج PRAIS لتقديم الرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية والتعليمية للضحايا وأسرهم، بما أعاد إليهم الكرامة الإنسانية. كما أوردت الدراسة أن الدولة أقرت قوانين تعويض وتعهدت بالاعتراف الرسمي بالضحايا كمواطنين متضررين من جرائم الدولة، في خطوة وُصفت بأنها “إعادة بناء المواطنة على أساس الألم المشترك”.

    وعلى مستوى الذاكرة، أكدت الدراسة أن تشيلي استطاعت تحويل مواقع القمع إلى فضاءات للذاكرة الوطنية، مثل “فيلا غريمالدي” و“ملعب سانتياغو”، لتصبح رموزًا لتاريخٍ لا يُراد نسيانه بل يُراد تذكّره كي لا يتكرر. وشدّدت على أن هذا التوظيف للذاكرة حوّل المأساة إلى طاقة تربوية وقيمية أعادت تعريف العلاقة بين المواطن والدولة.

    نحو تكييف التجربة التشيلية في السياق اليمني

    أوضحت الدراسة أن الاستفادة من الدرس التشيلي لا تعني نقله حرفيًا إلى اليمن، بل تكييفه بما يتناسب مع واقعٍ أكثر تعقيدًا. وشدّدت على أن المرحلة اليمنية تتطلب مسارًا متدرجًا ولا مركزيًا يبدأ من المجتمع المدني وينطلق من القاعدة نحو القمة.

    وأكدت الدراسة ضرورة البدء بتأسيس منظومة وطنية موحدة للتوثيق والأرشفة، تنسق بين اللجنة الوطنية للتحقيق ومنظمات المجتمع المدني لجمع الأدلة والشهادات وحفظها في قواعد بيانات آمنة وفق معايير مهنية. فالتوثيق — كما أشارت الدراسة — هو الخطوة الأولى في بناء سردية وطنية موثوقة تعيد للضحايا صوتهم وتمنح العدالة أساسها المادي.

    كما أوردت الدراسة أهمية إنشاء برنامج وطني لجبر الضرر يتجاوز التعويض المالي إلى رعاية صحية ونفسية وتعليمية وإعادة تأهيل مهني، مستوحًى من نموذج PRAIS التشيلي، مع ضرورة الاعتراف الرسمي بالضحايا وضمان إدماجهم في الحياة العامة. وأكدت أن ذلك يتطلب صندوقًا وطنيًا مستدامًا يعتمد على التمويل المحلي والدعم الدولي الموجّه لبناء القدرات لا لفرض الوصاية.

    وفي ما يتعلق بالذاكرة، شددت الدراسة على ضرورة إطلاق مشروع وطني للذاكرة المجتمعية، يرصد مواقع الانتهاكات ويحوّلها إلى متاحف ومراكز تعليمية تسهم في تكوين وعيٍ جمعيٍّ يمنع تكرار المأساة. كما بيّنت أهمية إشراك النساء والشباب في قيادة هذا المسار، لأنهم الفئة الأكثر تضررًا من الحرب والأقدر على بناء رواية مستقبلية للسلام.

    تحديات الخصوصية اليمنية واختلاف السياقات

    أبرزت الدراسة أن الاختلاف الجذري بين السياقين اليمني والتشيلي يفرض التعامل بحذر مع فكرة الاستنساخ. فاليمن — كما أوضحت — يعيش تعددية في القوى المسلحة وتدخلاً إقليميًا معقّدًا وانقسامًا حادًا في مؤسسات الدولة، ما يجعل تنفيذ العدالة الانتقالية رهينًا بتصميمٍ محلي واقعي لا بنموذجٍ جاهز.

    وأكدت الدراسة أن الثقافة القبلية في اليمن، وما يرتبط بها من مفاهيم الثأر والوساطة، تمثل تحديًا مركزيًا، لكنها في الوقت نفسه قد تُستخدم كأداة إيجابية في المصالحة إذا ما أُعيد توجيهها نحو العدالة التصالحية، كما أشارت إلى أن أي مسار وطني لا بد أن يجمع بين القانون والعرف والمصالحة الاجتماعية ضمن إطارٍ أخلاقي يوازن بين الحقوق والمصالح.

    وشدّدت الدراسة على أن العدالة الانتقالية في اليمن يجب أن تتجنب الوقوع في فخ الانتقائية السياسية، وأن تُصمم بصورة تضمن مشاركة حقيقية للضحايا بعيدًا عن تحكم الأطراف المتصارعة، مؤكدة أن الاستقلالية المؤسسية والشفافية شرطٌ أساسي لأي نجاح محتمل.

    العدالة والمصالحة - نحو سلام يقوم على الحقيقة

    تؤكد الدراسة أن المصالحة الوطنية لا يمكن أن تسبق العدالة، لأن المصالحة التي تُبنى على النسيان هشّة وقابلة للانهيار، بينما تلك التي تقوم على كشف الحقيقة وجبر الضرر تُنتج استقرارًا حقيقيًا، وتشير إلى أن الطريق نحو سلامٍ عادلٍ في اليمن يبدأ بكشف الحقيقة وتوثيق الجرائم، يليه مسار مساءلةٍ متناسبٍ مع الواقع، ثم جبر الضرر وإحياء الذاكرة الوطنية.

    وأوردت الدراسة أن هذه الخطوات الثلاث -الحقيقة، والمساءلة، والجبر- تشكل معًا المعمار الأخلاقي للعدالة الانتقالية، وأن غياب أي منها يُفقد العملية معناها، كما شددت على ضرورة دمج العدالة الانتقالية في أي اتفاق سياسي قادم، لضمان عدم تكرار الانتهاكات وتعزيز الثقة بين الدولة والمجتمع.

    وتوضح الدراسة أن بناء السلام في اليمن لا يمكن أن يتحقق بالقوة أو التسويات المؤقتة، بل عبر عملية مجتمعية طويلة الأمد تُعيد صياغة العلاقة بين المواطن والدولة على أساس الكرامة والإنصاف.

    نحو ذاكرةٍ وطنيةٍ تؤسس لمستقبلٍ عادل

    خلصت الدراسة إلى أن العدالة الانتقالية شرطٌ وجودي لسلام اليمن، وأن تجاهلها يعني استمرار دوامة العنف وتكرار المأساة، وشدّدت على أن المجتمع المدني اليمني يحمل اليوم مسؤولية تاريخية في قيادة هذا المسار، من خلال التوثيق والمناصرة وحفظ الذاكرة، بدعمٍ دوليٍّ منسق يحترم السيادة الوطنية، مضيفةً أن استلهام التجربة التشيلية يُظهر أن الشعوب قادرة على مواجهة ماضيها دون خوف، وأن الاعتراف بالألم هو الخطوة الأولى نحو الشفاء الجماعي.

     


  •  
    جميع الحقوق محفوظة لمنظمة سام © 2023، تصميم وتطوير