اليوم العالمي لحقوق الإنسان
اليمن وامتحان الكرامة
  • 10/12/2025
  •  https://samrl.org/l?a5665 
    منظمة سام |

    يأتي اليوم العالمي لحقوق الإنسان ليعيد إلى الواجهة ذلك الإعلان الذي أراد للعالم أن يقوم على كرامة الإنسان وحريته، وأن تصبح الحقوق قاعدة لا استثناء، وواجبًا لا خيارًا. هذا اليوم، الذي شكّل منعطفًا أخلاقيًا في ضمير البشرية، يحلّ على اليمن وفيه تُختبر هذه المبادئ بأقسى صورها، حيث انهارت مؤسسات الدولة وتعرض الإنسان لامتحان وجودي لم ينقطع منذ سنوات.

    ورغم تجدد الاحتفاء العالمي بهذه القيم في كل عام، فإن اليمن يكشف الوجه المؤلم للفجوة بين الالتزام الدولي وما يجري على الأرض. فمنذ الانقلاب المسلح الذي أطاح ببنية الدولة وأدخل البلاد في أتون حرب طويلة، ظهرت هشاشة المؤسسات وعجز القوى السياسية عن بناء دولة قادرة على حماية مواطنيها وضمان حقوقهم. ومع سقوط المركز السياسي، تفككت الجغرافيا وتناسلت الميليشيات، وتحولت السلطة من وظيفة دستورية إلى قوة تُفرض بالسلاح.

    وفي هذا الفراغ المتزايد، تراجعت أدوات الدولة وانسحبت مؤسساتها، لتصبح البلاد مسرحًا لسلطات متعددة وقوانين متضاربة وولاءات متباينة. القضاء فقد استقلاله، والإدارة العامة فقدت وحدتها، والأجهزة الأمنية انقسمت حتى لم يعد المواطن يعرف أين يبدأ القانون وأين ينتهي نفوذ الجماعات المسلحة. هذا الانهيار لم يعطل الدولة فحسب، بل ضرب أساس الكرامة الإنسانية، وأبقى الفرد أعزل أمام سلطات غير خاضعة للمساءلة.

    وفي ظل هذا الانهيار، تتراجع ثقافة حقوق الإنسان التي كان يفترض أن تكون خط الدفاع الأول للمجتمع. فالحقوق لا تستمد قوتها من النصوص وحدها، ولا تُصان بخطابات المؤتمرات ولا ببيانات الشجب، بل بالوعي الذي يحمله الناس عن ذواتهم وعن قيمتهم. ومن دون بناء هذا الوعي، يصبح المجتمع هشًّا أمام الاستبداد، وتغدو الانتهاكات ممكنة وطبيعية، ويتحوّل الحق إلى امتياز يخضع لموازين القوة لا لمبادئ العدالة.

    ولعلّ أحد أبرز التحديات   في التجربة الحقوقية اليمنية أنّ ثقافة حقوق الإنسان بقيت محصورة في الدوائر النخبوية، تتحرك داخل قاعات المؤتمرات المغلقة وورش العمل المحدودة، وتُصاغ في بيانات بلاغية لا تتجاوز حدود الورق. فحقوق الإنسان لا تُرسَّخ بالمحاضرات الرسمية ولا بالاجتماعات البروتوكولية، بل تُبنى في الميدان، في التلاحم مع الناس، وفي إدماج قيم الكرامة والحرية والمساءلة داخل التعليم والإعلام والثقافة العامة. إن تحويل الحقوق إلى "خطاب مجتمعي " ليكون لغة المجتمع كلّه، أحد اهم التحديات الي يجب العمل عليها لانتشار ثقافة حقوق الانسان وتثبيتها، وردم الفجوة بين المبادئ القانونية والفهم الشعبي لها. إن نشر الوعي الحقوقي يتطلب إرادة تتجه نحو الشارع والمدرسة والجامعة والمسجد والمنصّة الإعلامية، بحيث تصبح الحقوق جزءًا من الوعي اليومي للناس لا امتيازًا معرفيًا لفئة محدودة.

    ورغم قتامة المشهد، برزت فئة نادرة من المدافعين عن الحقوق—منظمات وأفرادًا وصحفيين ونشطاء—حملت عبء الحقيقة في زمن تتداخل فيه الروايات وتتسابق القوى لفرض سرديتها. هؤلاء، رغم التهديد والملاحقة وضيق الفضاء المدني، كانوا صمام الأمان الأخير للضحايا وحائط الصد أمام محاولات الطمس والمحو.

    وفي هذا اليوم، يصبح من واجب الجميع رفع الصوت واضحًا وصريحًا للمطالبة بوقف الانتهاكات والإفراج الفوري عن العاملين في المجال الإغاثي والإنساني الذين أمضوا سنوات خلف القضبان بلا محاكمة عادلة ولا سند قانوني. كما يتعيّن الكشف عن مصير المخفيين قسرًا الذين ترك غيابهم فراغًا لا يُحتمل في حياة أسرهم وأطفالهم. إن المحاكم الهشة التي تُصدر أحكامًا بالإعدام في غياب أبسط ضمانات العدالة لا تنتهك الحق في الحياة فقط، بل تسيء إلى فكرة القانون نفسها وتشوه صورة الواقع بكل أبعاده.

    وفي خضم هذا الانهيار، تتعرض الحقوق الاقتصادية لليمنيين لانتهاكٍ لا يقل قسوة. فالرَّاتب—وهو الحد الأدنى لصون كرامة الإنسان—غاب لسنوات، والخدمات العامة من صحة وتعليم ومياه باتت عبئًا على المواطنين بدل أن تكون حقًا مضمونًا. وهذه ليست أزمة معيشية فحسب، بل أزمة كرامة تُذكّر بأن الإنسان لا يمكن أن يمارس حريته وهو محروم من أساسيات الحياة. فالحقوق الاقتصادية ليست هامشًا، بل هي القاعدة التي تُبنى عليها بقية الحقوق، ومن دونها يضعف صوت المواطن وتتسع هوة الفقر وتترسخ بنية الاستبداد.

    وإن الخروج من دائرة الانتهاكات يتطلب إرادة صادقة تعترف بأن الحرب ليست قدرًا، وأن إعادة بناء الدولة ليست رفاهية سياسية بل ضرورة لإنقاذ المجتمع. فوقف الحرب هو الخطوة الأولى لاستعادة الحياة، وبناء المؤسسات هو الطريق لاستعادة القانون، والمحاسبة هي الضامن الوحيد لعدم تكرار المأساة. أما العدالة الانتقالية، فهي الإطار الذي يمنح الضحايا حقهم، ويعيد الاعتبار للإنسان، ويضع معايير تمنع تكرار الانتهاكات في المستقبل.

    إن الخروج إلى مسار حقوقي واضح لا يتحقق إلا بتكاتفٍ وطني واسع يضع حدًّا للإفلات من العقاب، ويؤسس لعدالة انتقالية قوية تشارك فيها الأحزاب والمنظمات والمجتمع المدني والنساء والشباب وكل الفئات الاجتماعية دون استثناء. فبناء مستقبل آمن لليمن يستلزم عملية سياسية تُخضع المنتهكين للمحاسبة، وتعيد الاعتبار للضحايا، وترسّخ مبادئ الحرية والديمقراطية، وتضمن مشاركة الجميع في صنع القرار وإدارة الثروة. إن دولة لا تقوم على الشفافية والمحاسبة والمشاركة الواسعة هي دولة مهددة بالانهيار المتكرر؛ أما المسار الحقوقي العادل، فهو وحده الذي يستطيع أن يفتح الطريق نحو يمن يُعاد بناؤه على أسس المواطنة لا الغلبة، وعلى حكم القانون لا منطق القوة.

    إن اليمن يستحق دولة تستند إلى المواطنة لا السلاح، وإلى القانون لا الولاءات، وإلى الكرامة لا الإخضاع. ويستحق مجتمعًا تُصان فيه حقوق الإنسان بوصفها أساسًا للوجود لا مكافأة تُمنح. وتؤكد منظمة سام التزامها بمواصلة حمل صوت الضحايا، والدفاع عن المدافعين عن الحقوق، والعمل من أجل يمنٍ يستعيد الإنسان فيه مكانته، وتستعيد الدولة معناها.


  •  
    جميع الحقوق محفوظة لمنظمة سام © 2023، تصميم وتطوير