يشكل الإخفاء القسري في اليمن إحدى أبرز القضايا الحقوقية التي ارتبطت بالصراعات السياسية على مدار العقود الماضية، سواء في الشمال أو الجنوب. هذه الجريمة ليست مجرد انتهاك فردي، بل تعكس نمطًا مرتبطًا بالمجتمع والنظام السياسي الذي أفرزها. ومع استمرار حالات الإخفاء، تظل العائلات عالقة بين الأمل والخوف، تنتظر أي خبر عن أحبائها. ولهذا، فإن تناول هذه القضية يجب أن يكون بمنتهى الموضوعية والموثوقية، بعيدًا عن التكهنات، لضمان عدم التلاعب بمصائر المختفين أو استغلال معاناة أسرهم. في الآونة الأخيرة، أُثيرت تساؤلات كثيرة حول مصير السياسي محمد قحطان وعدد من المخفيين قسرًا، سواء لدى الحوثيين، التحالف، أو المجلس الانتقالي، الذين تم اعتقالهم خلال عامي 2016 و2017، دون أي معلومات مؤكدة عن وضعهم حتى اليوم.
الإخفاء القسري: جريمة ضد الإنسانية ومسؤولية قانونية
يُصنَّف الإخفاء القسري كـجريمة ضد الإنسانية وفقًا للقانون الدولي، ويُلزم الأطراف المسؤولة بالكشف عن مصير المختفين، سواء كانوا أحياءً أو متوفين. وفق اتفاقيات جنيف (المادة 136-140 من الاتفاقية الرابعة) والبروتوكول الإضافي الأول (المادة 33)، فإن عدم تقديم أي معلومات عن المختفين يعد انتهاكًا صارخًا للقانون الإنساني الدولي. وفي حال مرور فترة زمنية معقولة دون أي دليل على بقاء الشخص على قيد الحياة، يمكن لذويه اللجوء إلى الإجراءات القانونية لإعلان وفاته، بما يضمن حقوقهم في العدالة والمساءلة.
إجراءات إعلان الوفاة في حالات الإخفاء القسري
في حال استمرار الإخفاء القسري لسنوات دون دليل على الحياة، يمكن اللجوء إلى المحاكم الوطنية والدولية لإعلان الوفاة. بعض الدول تعتمد على إعلان الموت الغيابي بعد مرور 4 إلى 10 سنوات دون أي معلومات مؤكدة، بينما تستند المحاكم الدولية إلى شهادات الشهود، التقارير الحقوقية، والتحقيقات المستقلة لإصدار شهادات وفاة قانونية. على سبيل المثال، قضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في عدة قضايا بأن استمرار الإخفاء القسري لسنوات دون معلومات كافية يعدّ قرينة قانونية على الوفاة.
مرور الوقت دون دليل قطعي: هل يعني الوفاة؟
إذا استمرت الجهة التي نفذت الإخفاء في الادعاء بأن الشخص لا يزال حيًا، لكنها لا تقدم أي دليل مادي على ذلك، مثل تسجيلات حديثة، شهادات حياة رسمية، أو السماح بالتواصل معه، فإن هذه الادعاءات تظل غير كافية قانونيًا. وفقًا للمعايير الدولية، فإن عدم تقديم دليل ملموس بعد مرور سنوات طويلة يجعل استمرار الإخفاء قرينة على الوفاة، مما يتيح للمحاكم إصدار حكم بالوفاة الغيابية، خاصة إذا لم تقدم الجهة الخاطفة أي معلومات موثوقة بشأن مصيره.
أهمية الجثة وتحليل الحمض النووي (DNA)
يعد العثور على الجثة وتحليل الحمض النووي أهم الأدلة المادية التي تؤكد وفاة الشخص المختفي قسرًا. إذ يساهم فحص DNA في التعرف على الضحايا، خاصة في حالات المقابر الجماعية أو محاولات طمس الأدلة. كما يلعب دورًا رئيسيًا في توثيق الجرائم ومحاسبة المسؤولين، حيث يتم اعتماده كدليل قانوني قوي في المحاكم الدولية. علاوة على ذلك، فإن وجود الجثة يتيح إغلاق الملف قانونيًا وإنسانيًا، مما يمنح العائلة حق دفن ذويهم بكرامة، والمطالبة بالتعويضات والاعتراف الرسمي بالوفاة.
سوابق قضائية ووقائع تاريخية
هناك العديد من السوابق القانونية التي تم فيها إعلان وفاة المختفين قسرًا بعد مرور فترات طويلة دون أي دليل على بقائهم أحياء. على سبيل المثال:
• قضية سيرور ضد تركيا (1998) أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، حيث اعتُبر استمرار الإخفاء دون دليل على الحياة قرينة قانونية على الوفاة.
• في الأرجنتين، بعد سقوط الديكتاتورية العسكرية، أصدرت المحاكم أحكامًا بوفاة مئات المختفين خلال “الحرب القذرة” (1976-1983)، رغم عدم العثور على جثثهم.
• المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة اعتمدت في قضايا مجزرة سربرنيتسا (1995) على شهادات وتقارير حقوقية لإعلان وفاة مئات المفقودين، حتى دون العثور على جميع الرفات.
• في العراق، أصدرت المحاكم أحكامًا بإعلان وفاة مختفين قسرًا بعد أكثر من 10 سنوات دون أي دليل على بقائهم أحياء.
نماذج شخصيات معروفة تعرضت للإخفاء القسري
تعرضت شخصيات سياسية بارزة للإخفاء القسري، وتم إعلان وفاتهم قانونيًا بعد سنوات من الاختفاء، مثل:
• راؤول فالنبرغ، الدبلوماسي السويدي الذي اختفى عام 1945 وأعلنت السويد وفاته رسميًا بعد 70 عامًا.
• المهدي بن بركة، المعارض المغربي الذي اختُطف في باريس عام 1965 ولم يُعثر عليه أبدًا.
• عبد الفتاح إسماعيل، رئيس اليمن الجنوبي السابق، الذي اختفى خلال أحداث 1986 وتم إعلان وفاته لاحقًا.
• الإمام موسى الصدر، الذي اختفى في ليبيا عام 1978، ورغم استمرار الجدل حول مصيره، إلا أن كثيرًا من الجهات تتعامل مع قضيته كإخفاء قسري انتهى بالوفاة.
من يملك حق إعلان وفاة المخفي قسرًا؟
لا يجوز لأي فرد أو منظمة إعلان وفاة شخص مخفي قسرًا استنادًا إلى شهادات أو مصادر غير موثقة قضائيًا، لأن ذلك يتطلب إجراءات قانونية رسمية. الجهة الوحيدة المخولة بذلك هي المحاكم الوطنية والدولية بعد دراسة الأدلة المتاحة، مثل غياب أي دليل على الحياة لفترة طويلة، شهادات رسمية، أو تقارير موثوقة. إعلان الوفاة دون إثبات رسمي قد يؤدي إلى التلاعب بالحقيقة، وزيادة معاناة الأسر، وعرقلة الجهود الحقوقية للكشف عن الحقيقة.
إعلان الوفاة غير الموثق: تأثيره على الأسر والمجتمع
إعلان وفاة شخص مخفي قسرًا دون أدلة موثوقة أو حكم قضائي رسمي ليس فقط خطأً أخلاقيًا، بل تصرف غير مسؤول قد يؤدي إلى زعزعة استقرار الأسرة والمجتمع. مثل هذه الإعلانات قد توفر غطاءً للجناة للتهرب من مسؤوليتهم، كما تعرقل جهود البحث عن الحقيقة. على الأفراد والمنظمات الحقوقية أن يتحلوا بالمسؤولية والحيطة، وأن يلتزموا بالمعايير القانونية والإنسانية لضمان كشف الحقيقة بطريقة عادلة ومنصفة، بعيدًا عن التكهنات والتسييس.
الخلاصة
الإخفاء القسري ليس مجرد جريمة فردية، بل مأساة إنسانية وسياسية تتطلب معالجة دقيقة ومسؤولة. إعلان وفاة المختفين يجب أن يستند إلى إجراءات قانونية واضحة وأدلة موثقة، وليس مجرد تكهنات أو مصادر غير رسمية. ومع استمرار هذه الظاهرة في اليمن، يظل الكشف عن مصير المخفيين قسرًا ومحاسبة المسؤولين أولوية حقوقية وإنسانية لا تقبل التسويف أو التلاعب.