قصة متحف أضاء تعز المحاصرة
حين يتحول الوجع إلى ذاكرة… والفن إلى عدالة
  • 22/11/2025
  •  https://samrl.org/l?a5652 
    منظمة سام |

    في مدينةٍ أنهكها الحصار وتكاثفت على جدرانها طبقات الوجع، وُلد ضوء صغير لم يكن في الحسبان. كان المشروع الذي نفّذته منظمة سام للحقوق والحريات، بالشراكة مع رابطة أمهات المختطفين وبدعم من معهد DT، أكثر من مجرد نشاط حقوقي؛ كان محاولة جادة لتحويل الألم إلى ذاكرة، وتحويل الذاكرة إلى عدالة، وتحويل الضحايا والشباب والفنانين إلى رواة للحقيقة. في قلب الحصار نشأت الحكاية: كيف يمكن للفن أن يحتضن المدن المجروحة؟ وكيف يمكن للشباب أن يصبحوا صانعي مستقبلٍ يتجاوز الرماد؟

    بدأ الأمر حين خضع أكثر من مئة وخمسين شابًا وشابة لتدريب مكثّف ضمن مشروع سبارك، امتد لشهرين كاملين، تخللته وحدات حول العدالة الانتقالية والعدالة التصالحية وجبر الضرر، ودراسات حالة وتمارين جماعية وفيديوهات صنعت في نفوسهم يقظة جديدة. لم يكن التدريب مجرد محتوى نظري، بل تجربة إنسانية نقلتهم من مقاعد المتابعة إلى ميدان المبادرة. وما إن عادوا إلى مجتمعاتهم، حتى كان كل واحد منهم يحمل شعورًا غير مسبوق بأنه ليس فقط متدربًا، بل شريك في إعادة بناء الوعي العام، ومشارك في صناعة المسار الذي طالما حُرم منه المجتمع.

    ومن بين هؤلاء الشباب ظهر توران. لم يتعامل مع التدريب كمرحلة عابرة، بل كبذرة قلبت حياته رأسًا على عقب. بمجرد انتهاء البرنامج، اندفع متطوعًا في جميع الأنشطة، حاضرًا في الجلسات، مشاركًا في المناقشات، مقترحًا حلولًا ومبادرات. كانت رؤيته واضحة: العدالة ليست ملفات تُكتب، بل ذاكرة تُصنع. وحين طرح فكرة أن تتحول قصص الضحايا إلى معرض بصري يحفظ الوجع ويمنحه معنى، كانت الفكرة نواة أولى لمتحف الذاكرة.

    قال توران وهو يصف أثر التدريب:

    “كان للتدرّب أثر على تصميم فكرة المتحف… تعلّمنا كيف نعرض قصص الضحايا بكرامة، وكيف نمنع إيذاءهم مرة ثانية، وكيف يكون الهدف الحقيقة والمصالحة لا الانتقام.”

    تحوّل توران من متدرب إلى قائد فريق تطوعي يضم ثمانيةً وثلاثين شابًا وشابة، نظّمهم في لجان إعلام ونظام واستقبال وتوثيق. لم يكن يقودهم فقط، بل كان يمنحهم الإيمان بأن الفن قادر على قول ما تعجز عنه الكلمات. ومع تطوّر الفكرة، أصبح المتحف منصة فنية وإنسانية ووطنية، يستقبل وفودًا من الداخل والخارج، ويعرض قصص الحصار بألوان عميقة ووجوه تشبه الحقيقة أكثر مما تشبه الفن.

    في إحدى زوايا المتحف، وقفت هديل محمود. كانت طفلة حين فقدت يديها في منطقة الكدحة عام 2017. اللوحة التي عُلّقت على الجدار جسّدت لحظتها تلك: طفلة تركض وسط الغبار والدخان تبحث عن يديها المفقودتين، بعينين مذعورتين تحاولان الإمساك بما لم يعد موجودًا. حدّقت هديل في اللوحة طويلًا، وكأن الزمن عاد بها إلى اللحظة الأولى، غير أنها هذه المرة لم تكن خائفة. تمتمت بصوت خافت:

    “كنت أظن أنني فقدت كل شيء… لكن الفن أعاد لي نفسي.”

    لم تكن اللوحة مجرد تسجيل للحظة قاسية، بل كانت اعترافًا صامتًا بأن ما حدث لها لم يسرق صوتها، ولم يمحُها من الذاكرة. أصبحت هديل اليوم جزءًا من فريق الفعاليات، تروي قصتها للأطفال والنساء، وتشارك في ورش الرسم المخصصة لدعم الضحايا. تحولت من ضحية إلى رمز، ومن جرح إلى نافذة للأمل.

    وفي زاوية أخرى من المتحف، كانت لوحة صغيرة تكاد تُنسى بين اللوحات الكبيرة. رسمتها الطفلة سيلو العريقي لطفلٍ نحيل يحمل دمية وسط ركام، مكتوب خلفه بخط باهت: “صديق مفقود.” مرّ الكثيرون دون أن يتوقفوا عندها، إلى أن جاء طفل يُدعى إسلام كمال الشرعبي. وقف أمام اللوحة، مدّ إصبعه نحو الطفل المرسوم وقال ببراءة موجعة:

    “مثاحب…”

    أي: أريد أن أكون صديقه.

    بقي واقفًا أمام اللوحة نحو خمسٍ وأربعين دقيقة، يصمت، يبتسم أحيانًا ويغالب دموعه أحيانًا أخرى. شيئًا فشيئًا، بدأ الزوار يتوافدون، يراقبون العلاقة التي نشأت بين طفل من هذا العالم وطفل مرسوم في عالم آخر. تحولت اللوحة الصغيرة إلى مركز المعرض، وأصبحت جسرًا إنسانيًا يذكّر الجميع بأن الفن قادر على جمع الأرواح حتى في أشد اللحظات قسوة. لقد فعلت تلك اللوحة الصغيرة ما لم تستطع المئات من الكلمات فعله: أعادت للطفولة حقها في الحنان.

    لكن الحكاية لم تنتهِ هنا. ففي أحد أركان المتحف، لوحته يغمرها الأحمر، وقف عدنان يروي قصته. كان طفلًا في الصف الثالث حين قتلت رصاصة قناص صديقه محمد أمام عينيه. حمله بيديه الصغيرتين، والدم يغمر كفيه، وظل يصرخ في الطريق الذي سقط فيه نصف قلبه. عاش بعدها سنوات طويلة في صمت ثقيل، إلى أن جاء إلى المتحف وطلب منه الفريق أن يرسم قصته. جلس أمام القماش الأبيض، ثم بدأ يرسم للمرة الأولى منذ الطفولة: جسدًا من حجارة يحتضن تعز المحاصرة، وأذرعًا ممدودة تطلب الحياة، ونهرًا من الدم يشق اللوحة، وثلاثة طيور سوداء تحلق فوقها. قال حين انتهى:

    “هذا محمد… لكنه أيضًا تعز.”

    لم يعد عدنان مجرد طفل فقد صديقًا؛ صار صانع ذاكرة. لوحته اليوم تقف كصرخة بصرية ترفض النسيان، وتجعل من الألم كتابًا مفتوحًا أمام المجتمع والزوار والباحثين. لقد تعلّم أن الفن ليس هروبًا من الجرح، بل طريقة للنجاة منه.

    كانت تجربة الشباب والضحايا والفنانين كلها درسًا عميقًا: العدالة ليست حكرًا على المحاكم، ولا حصرًا على التقارير. العدالة قد تكون ريشة، وقد تكون لوحة، وقد تكون قصة تُروى بصوتٍ مرتجف، وقد تكون طفلًا يقف أمام لوحة صغيرة ليقول: “أريد أن أكون صديقه.”

    هكذا وُلد متحف الذاكرة. ليس مكانًا للعرض، بل مكانًا لاعتراف جماعي بأن الألم يجب أن يُرى، وأن الذاكرة يجب أن تُصان، وأن الحقيقة لا تسقط بالتقادم. إنه الفضاء الذي أعاد للضحايا صوتهم، وللمدينة وجهها، وللإنسان قدرته على تحويل الجرح إلى معنى.

    وفي خاتمة الحكاية، يتضح أن ما فعله الشباب والضحايا والفنانون لم يكن مجرد مبادرة، بل كان كتابةً جديدة لفكرة العدالة الانتقالية نفسها. فبين الريشة واللون، ودموع الأطفال، وذكريات العدوان، تحول الألم إلى سردية، والسردية إلى وعي، والوعي إلى وعدٍ بأن الحرب مهما طال نزيفها… لن تنجح في محو قصص الذين عاشوها.


  •  
    جميع الحقوق محفوظة لمنظمة سام © 2023، تصميم وتطوير