فرص واقعية لتطبيق العدالة الانتقالية في اليمن على غرار رواندا
  • 22/11/2025
  •  https://samrl.org/l?a5654 
    منظمة سام |

    أصدرت منظمة سام للحقوق والحريات ورابطة أمهات المختطفين دراسةً بحثية بعنوان «إمكانات تطبيق العدالة الانتقالية في اليمن: مقارنة مع التجربة الرواندية» أعدّها الباحث عادل دشيلة ضمن مشروع سبارك المدعوم من معهد دي تي DTI، تناولت آفاق تحقيق العدالة الانتقالية في اليمن بعد سنوات الحرب، واستعرضت أبرز الدروس المستفادة من التجربة الرواندية التي تحوّلت من بلدٍ مزّقته الإبادة الجماعية إلى نموذجٍ في المصالحة الوطنية وإعادة بناء الدولة.

    تسعى الدراسة إلى تحليل التحديات البنيوية والسياسية والاجتماعية أمام أي مسارٍ للعدالة في اليمن، وتقارن بين السياقين اليمني والرواندي من حيث البنية المؤسسية، والبيئة القانونية، وآليات جبر الضرر، والمصالحة المجتمعية، والذاكرة الوطنية، بهدف استخلاص مقاربات واقعية يمكن تكييفها محليًا لتحقيق سلامٍ عادلٍ ودائم.

    وتناولت الدراسة، في عرضٍ تحليلي موسّع، سؤالًا محوريًا: كيف يمكن لليمن الاستفادة من تجربة رواندا في العدالة الانتقالية لمعالجة إرث الحرب وتحقيق مصالحة وطنية مستدامة؟ وأشارت إلى أنّ التجربة الرواندية بعد إبادة عام 1994 قدّمت نموذجًا محليًا متعدّد المسارات للعدالة، جمع بين المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا في أروشا، والمحاكم الوطنية الرسمية والعسكرية، ومحاكم «الغاكاكا» الشعبية ذات الجذور العرفية؛ بالتوازي مع برامج شاملة لجبر الضرر وبناء الذاكرة الوطنية وإصلاح المؤسسات. وكشفت أن اختلاف الجذور بين السياقين—عرقيًا في رواندا وسياسيًا/مناطقيًا في اليمن—لا يحول دون إمكان توطين أدوات تلك التجربة بما يلائم البيئة اليمنية، خصوصًا عبر تفعيل الأعراف القَبَلية كآليات مسانِدة للعدالة التصالحية، وتصميم برامج تعويض مركّبة تجمع بين المادي والمعنوي، وبناء ذاكرة وطنية شاملة وعادلة.

    وأوضحت الدراسة أنّ النجاح النسبي لمسار رواندا ارتكز على ثلاثة عناصر حاسمة: الحسم العسكري الذي أفضى إلى سلطة موحّدة قادرة على فرض الرؤية، وإرادة سياسية مركزية قادتها الدولة، وابتكار محاكم الغاكاكا لتخفيف الضغط عن المنظومة القضائية وتمكين المشاركة المجتمعية في كشف الحقيقة وجبر الضرر. وفي المقابل، بيّنت أن اليمن يفتقر، حتى الآن، إلى سلطة موحّدة وإرادة سياسية مشتركة، فضلًا عن انقسامٍ حادّ في مؤسسات الدولة القضائية والأمنية والتعليمية والإعلامية، وتداخل نفوذ جماعات مسلّحة ما دون الدولة، وتورّط أطراف إقليمية في الصراع، ما يجعل العدالة الجنائية الشاملة مسارًا عالي الكلفة سياسيًا واجتماعيًا في الظروف الراهنة.

    وفي خلفية مقارنة دقيقة، استعرضت الدراسة مسار العدالة الانتقالية الذي شُرع في نقاشه باليمن عقب ثورة 11 فبراير 2011، بدءًا بمطالب الشباب بمحاكمة رموز الانتهاكات، مرورًا بالعدالة التفاوضية التي كرّستها المبادرة الخليجية ومنحت الحصانة مقابل الانتقال السياسي، وصولًا إلى مداولات مؤتمر الحوار الوطني (2013–2014) حول قانونٍ للعدالة الانتقالية وصندوقٍ لجبر الضرر. وأشارت إلى أن انقلاب سبتمبر 2014 وما تلاه من حرب شاملة منذ 2015 أوقف ذلك المسار وألحق ضررًا بالغًا بما تحقق من خطوات تأسيسية، لتدخل البلاد مرحلة نزاع مفتوح عطّل إمكانية التوافق على آليات العدالة ومداها الزمني ونطاقها الموضوعي.

    وفي توصيف التحديات، كشفت الدراسة أن مساري العدالة الجنائية وجبر الضرر يواجهان عراقيل متشابكة: تفتّت القضاء وضعف قدرته الإجرائية، وانقسام الأجهزة الأمنية والعسكرية، وتبادل الاتهامات والانتهاكات بين الأطراف بحيث تداخلت صفة الضحية والجلّاد، إضافة إلى التراكم الهائل للملفات وحجم الأضرار المادية والمعنوية بما يفوق قدرة الدولة المالية والإدارية. وأوضحت أن مقاربة «الكل دفعة واحدة» غير واقعية، وأن المدخل العملي يقتضي ترتيب الأولويات واعتماد تدرّجٍ يوازن بين ضرورات الإنصاف ومتطلبات المصالحة والاستقرار—بدءًا من ملفات قابلة للتوافق كجبر الضرر، والعدالة التصالحية في النزاعات المحلية، وتوثيق الحقيقة على نحوٍ منهجي يمهّد للمساءلة لاحقًا.

    وبالعودة إلى التجربة الرواندية، أوضحت الدراسة أنّ «الغاكاكا»—بوصفها محاكم شعبية تستند إلى الأعراف القديمة—شكّلت رافدًا رئيسًا لمنظومة العدالة، إذ أتاحت سرد الوقائع على الملأ، وإقرار الجناة، واعتذارهم، وتفعيل المصالحة بوسائط اجتماعية ورمزية ومادية متدرجة، فخفّفت الاكتظاظ القضائي والسجني، وحرّكت مسار جبر الضرر من القاعدة إلى القمّة. وأشارت إلى أنّ تلك المحاكم واجهت انتقادات معتبرة: مخاوف الانتقام ضد الشهود، ضعف الحق في الاستشارة القانونية، تضارب المصالح المحلي، ضغوط الاعتراف العلني، محدودية إنصاف ضحايا العنف الجنسي في جلسات علنية، وإقصاء أصوات أقليات كـ«التوا»، فضلًا عن اتهامات بـ«عدالة المنتصر» مع محدودية تناول انتهاكات الجبهة الوطنية الرواندية. ومع ذلك، كشفت الدراسة أنّ كلفتها المنخفضة، وشمولها المجتمعي، وسرعتها الإجرائية، مكّنتها من حسم قرابة 1.2 مليون قضية خلال 2001–2012، وأسهمت في ترميم العلاقات الأفقية داخل المجتمع.

    وفي محور جبر الضرر، أبرزت الدراسة صندوق دعم الناجين (FARG) وبرامج السكن والصحة والتعليم والتمكين الاقتصادي، ومبادرات مجتمعية كـ«جيرينكا» لتخفيف الفقر عبر تمليك المواشي للفئات الأشد فقرًا، إلى جانب إجراءاتٍ رمزية ومعنوية: مواقع الذاكرة الوطنية (كيغالي، مورامبي، نياماتا، نيتاراما، بيسيسيرو، نياروبوي) التي تربط التوثيق بالتعليم وبناء الوعي لمكافحة خطاب الكراهية ومنع تكرار الجرائم. وأشارت إلى أنّ ترسانة القوانين، وإصلاح المؤسسات الإعلامية والتعليمية والقضائية، ربطت العدالة بالمصالحة عبر خطابٍ عام يغلّب الوحدة الوطنية، وإن حملت هذه السياسات خطر السردية الأحادية التي قد تهمّش ذاكرة فئات واسعة وتضعف شاملية المصالحة على المدى الطويل.

    وعلى الضفة اليمنية، أوضحت الدراسة وجود قواعد عرفية قبَلية مرنة وفعّالة تاريخيًا في فضّ المنازعات، يمكن مأسستها كذراعٍ مسانِد للعدالة الانتقالية—لا بديلاً عنها—ضمن إطار قانوني شفاف وتحت إشراف الدولة. وأشارت إلى مبادرات محلية واعدة في العدالة التصالحية وجبر الضرر وإعادة الممتلكات، وإلى مؤشرات اجتماعية إيجابية مثل تفضيل الأغلبية للمصالحة وإنهاء الحرب، بما يعكس قابلية المجتمع لاستعادة النسيج الاجتماعي متى ما توافرت الضمانات المؤسسية والسياسية. وكشفت أنّ تنظيم هذه المبادرات وتوسيع نطاقها يحتاج إلى حوكمة واضحة، وآليات تظلّم وتحقق، وإدماج النساء والشباب والضحايا أنفسهم في التصميم والتنفيذ والمتابعة.

    وأوضحت المقارنة البنيوية نقاط التشابه والاختلاف: من جهة، يتشابه البلدان في الحاجة إلى مزج العدالة الرسمية بالآليات المحلية لتوسيع الوصول للإنصاف وخفض الكلفة وتكثيف المشاركة؛ ومن جهة أخرى، تمتلك رواندا ميزة دولة مركزية متماسكة وإرادة حاسمة، بينما يواجه اليمن انقسامًا مؤسسيًا عميقًا وتعدّد تشكيلات مسلحة وتدخّلات إقليمية واضحة، ما يستلزم اتفاقًا سياسيًا صارمًا يربط وقف الحرب بالشروع الفوري في مسارات العدالة والمصالحة وإصلاح المؤسسات. وأشارت الدراسة إلى أنّ الإعلام اليمني، بخلاف التجربة الرواندية، ما يزال يغذي الانقسام بخطابات متعارضة، ما يفرض إصلاحًا مهنيًا وأخلاقيًا وقانونيًا يعيد توجيه وظائفه نحو كشف الحقيقة، ومناهضة التحريض والكراهية، وبناء ثقافة الاعتراف والاعتذار والتعافي.

    وعلى مستوى الرؤية العملية، قدّمت الدراسة ثلاثة مسارات للاستفادة:

    أولًا، تنظيم العدالة التقليدية المجتمعية: توحيد القواعد العرفية وتقييدها بضمانات حقوقية؛ تشكيل لجان محلية مختصة بالوساطة والتحكيم في قضايا الانتهاكات الأقل جسامة، مع إحالة الجرائم الخطيرة لقضاء مختص؛ اعتماد معايير اختيار للوسطاء والقضاة الشعبيين قوامها النزاهة والسمعة والاستقلالية؛ وتدريبهم على مبادئ حقوق الإنسان وإدارة الجلسات وحماية الشهود، مع آليات تعقيب واستئناف محدودة ترد المظالم وتعالج التعسّف.

    ثانيًا، جبر الضرر المركّب والمتدرّج: المزج بين التعويضات الرمزية (اعتذارات علنية، مراسم ردّ الاعتبار، إعادة الممتلكات، نصب تذكارية محلية)، والدعم النفسي والاجتماعي، وتعويضات مادية ممكنة وفق القدرة؛ تأسيس صندوق وطني متعدد المصادر (موازنة عامة، مساهمات دولية وإقليمية، غرامات مقرّرة)، مع أولوية للفئات الأشد تضرّرًا (الأرامل، الأيتام، ضحايا العنف الجنسي، المفقودون وأسرهم)، ومعايير شفافة للصرف والمتابعة والتقييم.

    ثالثًا، الذاكرة الوطنية الشاملة: إنشاء «متحف/أرشيف وطني للذاكرة» يحتوي روايات جميع الضحايا بلا انتقائية، وبرامج تعليمية تثقيفية، ومراكز أبحاث، ومراصد لكراهية الخطاب والتحريض؛ تصميم طقوس سنوية وطنية لإحياء الذكرى تتجاوز الاصطفافات المناطقية والمذهبية؛ تشجيع مبادرات محلية لتوثيق الأحداث في المحافظات وربطها بمنصة وطنية موحّدة؛ وتطوير سياسات إعلامية وتعليمية تعزّز المواطنة المتساوية وتجرّم التمييز والتحريض.

    وفي البعد المؤسسي، كشفت الدراسة ضرورة ربط أي تسوية سياسية ببرنامجٍ مُلزِم للعدالة الانتقالية وإصلاح مؤسسات الدولة: توحيد القضاء ورفع الانقسام الإداري والقانوني، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية ودمج التشكيلات المسلّحة تحت سلطة الدولة، وتحديث الإطار التشريعي بما يوفّر مسارات للمساءلة وجبر الضرر وكشف الحقيقة وحماية الضحايا والشهود. وأوضحت أنّ نجاح هذه الحزمة يستند إلى إرادة سياسية مشتركة، وآليات رقابة مجتمعية وخبرات فنية مستقلة، وتدرّج زمني واقعي يُراعي القدرات المالية للدولة.

    وأشارت توصيات الدراسة إلى أدوار متكاملة: لمؤسسات المجتمع المدني الاستمرار في التوثيق المنهجي للانتهاكات وبناء قواعد بيانات قابلة للتقاطع والتدقيق؛ ولأطراف النزاع والقوى السياسية والقبلية والدينية إطلاق حوار على الحد الأدنى من العدالة الانتقالية يغلّب الإنصاف على الانتقام ويحوّل المصالحة إلى التزام مؤسسي؛ وللمبعوث الأممي والشركاء الدوليين توفير التمويل والخبرة والتدريب وبناء القدرات، والضغط لتبنّي برنامج عدالة انتقالية واضح ومُنجَز بمؤشرات أداء وجدول زمني؛ إلى جانب تفعيل الأعراف القبلية كآلية مساعدة منضبطة، وربط المصالحة السياسية بالعدالة، لما يضمن سلامًا مستدامًا لا يتهاوى مع أول أزمة.

    وأبرزت الدراسة أيضًا ضرورة معالجة الفجوة السردية في اليمن عبر مشروع وطني للذاكرة يَحفظ حقّ الضحايا جميعًا، ويمنع استحواذ رواية طرفٍ واحد على المشهد، وهو ما اعتبرته شرطًا أخلاقيًا وسياسيًا واستباقيًا لعدم تكرار الصراع. وكشفت أن النتائج الميدانية والاجتماعية—ومنها ارتفاع نسبة تفضيل المصالحة—تشير إلى استعدادٍ مجتمعيّ لالتقاط فرص العدالة التصالحية إذا ما توافرت الضمانات القانونية والمؤسسية.

    وفي الخلاصات الختامية، أوضحت الدراسة أن العدالة الانتقالية ليست «قانونًا» فحسب ولا «محاكماتٍ» فحسب، بل هي مشروع وطني متكامل: كشفٌ للحقيقة، وجبرٌ للضرر، وإصلاحٌ للمؤسسات، وبناءٌ لذاكرةٍ جامعة، يتقدّم بالتوافق بدلًا من الإقصاء. وكشفت أن السيناريو الأقرب لليمن، بحسب المعطيات، هو عدالة توافقية—لا عدالة منتصر—تنطلق بوقفٍ دائمٍ للحرب واتفاقٍ سياسيّ مُلزِم يؤسّس لمصارحةٍ ومحاسبةٍ بمدىً زمني معقول، ويعيد للدولة احتكار أدوات القوة، ويفتح مساراتٍ مُمكنة للإنصاف والمصالحة وإعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة. بهذه المقاربة الواقعية، تخلص الدراسة، يمكن تحويل دروس رواندا إلى أدواتٍ يمنيةٍ أصيلة، تُنصف الضحايا، وتُصلح العطب المؤسسي، وتُرمّم الثقة الأفقية بين المواطنين، وتغلق—على المدى البعيد—دوّامة العنف الدوري.

     

  •  
    جميع الحقوق محفوظة لمنظمة سام © 2023، تصميم وتطوير